شرح قصيدة أرق على أرق

Zohoor Alreef

عضو جديد
23 نوفمبر 2018
182
1
0
33
شرح قصيدة أرق على أرق

2820-cached.jpg

أبو الطيب المتنبي

هو أبو الطيب أحمد بن حسين بن الحسن بن مرّه بن عبد الجبار، اشتهر باسم المتنبي وُلِدَ في الكوفة في العراق عام 915م، وهو من أبرز شعراء العصر العباسي إنْ لم يكن أبرزهم، وهو أحد أشهر شعراء العربية على الإطلاق، يعتبر كثير من النقاد شاعرَ العربية الأوّل على مرِّ العصور، وقد كانَ المتنبي شخصيّة بارزة في أيام حياتِهِ، يفخر بنسبه وبتقرُّبِهِ من الحمْدانيين الذين حكموا في تلك الفترة، فكان ذا شخصية مميزة بين الناس، إلى جانب شاعريته وبلاغته الكبيرة التي تمتع بها، وهذا المقال مخصص للحديث عن شرح قصيدة أرق على أرق والمرور على الصور الفنية فيها. 1)
شرح قصيدة أرق على أرق

تعدُّ قصيدة أرق على أرق واحدة من القصائد العظيمة التي أبدعها المتنبي، المتنبي الذي كانَ أحدَ حكماء العرب شعرًا، فقد استطاع أن يكتب في الحكمة ما عَلِقَ في قلوب العرب حتَّى اليوم، وفيما يتعلَّق بشرح قصيدة أرق على أرق التي تعدُّ من القصائد التي أكثر فيها المتنبي من الحكمة، حيث يقول فيها:
أرَقٌ عَلى أرَقٍ وَمِثْلي يَأرَقُ وَجَوًى يَزيدُ وَعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ
جُهْدُ الصّبابَةِ أنْ تكونَ كما أُرَى عَينٌ مُسَهَّدَةٌ وقَلْبٌ يَخْفِقُ
إنَّ الأرق هو الامتناع عن النوم ليلًا، والجَوَى: هو الحزن الذي يكتمهُ الإنسان، والعَبرة: الدمعة، ترقرقت: سالت، ويعاني المتنبي في مطلع قصيدته من الأرق الطويل الذي لا ينقطع، هذا الأرق الشديد الذي دفعه إلى البكاء والأسى، ثم يقول في البيت الثاني إنَّ غاية الصبابة أو الشوق، هو بلوغ الحال التي يعيشها هو في هذه اللحظات التي يكتب فيها قصيدته، فعيونه متعبة من شدة البكاء والقلق.
مَا لاحَ بَرْقٌ أوْ تَرَنّمَ طائِرٌ إلاّ انْثَنَيْتُ وَلي فُؤادٌ شَيّقُ
جَرّبْتُ مِنْ نَارِ الهَوَى ما تَنطَفي نَارُ الغَضَا وَتَكِلُّ عَمّا يُحْرِقُ
يقول الشاعر: لم يلمع برقٌ أو نجمٌ ولم يترنَّمْ طائِر إلا انعطفت ورجعت إلى نفسي، وأنا مشتاقٌ مُهَيَّجُ القلبِ لذكر المحبوبة، ثم ينتقل ويذكر الغضى: والغضى هو شجر شديد التوقد في النار، فيقول المتنبي: جرّبت من نار الهوى نارًا لا تقارن بها نار الغضى لشدتها وحرارتها، حيث يوازن الشاعر بين نارين : نار الهوى ونار الغضى، ونار الهوى في نظر الشاعر أشدُّ إحراقا من نار الغضى.
وَعَذَلْتُ أهْلَ العِشْقِ حتى ذُقْتُهُ فعجبتُ كيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ
وَعَذَرْتُهُمْ وعَرَفْتُ ذَنْبي أنّني عَيّرْتُهُمْ فَلَقيتُ فيهِ ما لَقُوا
يقول المتنبي هنا إنَّه عندما ذاق مرارة العشق ما فيه من وجع وانكسار عذرَ أهل العشاق على جزعهم وحزنهم، بل وعجبَ كيف يبقى حيًّا من يكون عاشقًا، ثمَّ يذكر أنَّه عندما شعَرَ بذنبهِ تجاه أهل العشق لقي ما لقوا من الأسى والتعب والانكسار والوجع.
نَبْكي على الدّنْيا وَمَا مِنْ مَعْشَرٍ جَمَعَتْهُمُ الدّنْيا فَلَمْ يَتَفَرّقُوا
أينَ الأكاسِرَةُ الجَبابِرَةُ الأُلى كَنَزُوا الكُنُوزَ فَما بَقينَ وَلا بَقوا
من كلّ مَن ضاقَ الفَضاءُ بجيْشِهِ حتى ثَوَى فَحَواهُ لَحدٌ ضَيّقُ

خُرْسٌ إذا نُودوا كأنْ لم يَعْلَمُوا أنّ الكَلامَ لَهُمْ حَلالٌ مُطلَقُ
ثمَّ ينتقل المتنبي إلى شعر الحكمة فيقول: يبكي الناس ويندبون على الفراق والموت وهم يعلمون أنَّه لا يمكن أن يلتقيَ اثنان ويبقيا خالدين مع بعضهم، فمن عادة الدنيا التفريق، فما اجتمعَ قومٌ إلَّا تفرّقوا منها عاجلًا أم آجلًا، ثمَّ ينتقل إلى السؤال من باب التأكيد على كلامه الأول، فيقول: أين الملوك، وأين الجبابرة الذين كَنزوا المال وأعدّوه، فلم يُغْنِ عنهم منَ الموت شيئًا، فلم تبقَ الكنوز ولم يبقوا هم، أين من كانت الأرض تضيق بعدد جيشه وأرتال جنده، يقول: أولئك الأكاسرة أصبحوا في لحد ضيِّق بعد أن كان الفضاء الواسع يضيق بجيوشهم وهم موتى لا يجيبون من ناداهم كأنَّهم يظنون أنَّ الكلام محرَّم عليهم فلا يحلُّ لهم أن يتكلَّموا.
فَالمَوْتُ آتٍ وَالنُّفُوسُ نَفائِسٌ وَالمُسْتَعِزُّ بِمَا لَدَيْهِ الأحْمَقُ
وَالمــرء يَأْمُلُ والحيَاةُ شهيةٌ وَالشَيب أَوْقَرُ والشبيبةُ أَنْزَقُ
يقول: إنَّ الموتَ لا محالة قادمٌ والنفوس جليلة خليقة بأن يبخل بها، إلا أن المخدوع والمغترّ بما لديه ممّا لا بقاء له هو الأحمق، ويقول المتنبي إن الإنسان يكره الشيب، ويحبّ الشَّباب، والشيب خير له؛ لأنه وقتُ الحلم والوقار، وهو يحبّ الشباب، وهو شرّ له، لأنه يحمله على الطيش والخفة، فالشيب أوقر من غيره، والشبيبة أنزق من غيرها. 2)
الصور الفنية في قصيدة أرق على أرق

يُعرَف المتنبي بفصاحتِه وشعريّتِه العالية وحسن الصنعة في شعره، فهو برأي كثير من النقاد الشاعر الأكبر في تاريخ العرب، ولا شكَّ أنَّ المتنبي مع كلِّ هذا الثناء سيكون شاعرًا حافلًا بالصور والتشابيه التي لم يعرفها الشعراء العرب إلَّا عند أبي الطيب، وبالحديث عن قصيدة أرق على أرق لا بدَّ من المرور على بعض الصور الفنية الواردة في أبياتِها، ويقول المتنبي في قصيدة أرق على أرق: 3)
مَا لاحَ بَرْقٌ أوْ تَرَنّمَ طائِرٌ إلاّ انْثَنَيْتُ وَلي فُؤادٌ شَيّقُ
في هذا الموت تصويرٌ جميل وربط لطيف بين لمعان البرق الذي يقصد به المتنبي وجه الحبيبة، ويقصد بتنّم الطائر همس صوتِها ورقَّتِهِ إلَّا ارتفع مستوى نبضات القلب عنده، فشبَّه وجهها ولمعانه بالبرق وصوتها بغناء الطائر، ثم جا باستعارة مكنية في آخر البيت حيث ثال لي فؤاد شيّق، وهو تشبيه الفؤاد بالإنسان الذي من صفته الاشتياق فحذف المشبه به وكنّى عنه بشيء من صفاتِهِ على سبيل الاستعارة المكنية، ويقول أيضًا:
جَرّبْتُ مِنْ نَارِ الهَوَى ما تَنطَفي نَارُ الغَضَا وَتَكِلُّ عَمّا يُحْرِقُ
يصرُّ أبو الطيب على الإتيان بتشبيهات تندر في الشعر وتكاد تنعدم لولاه، فيشبه شدّة النار التي تغلي في داخلِهِ بنار الغضى وهي النار الشديدة الاشتعال، وهذا بعض ما عنده، فالحكمة في شعرِهِ تحمل مشاهدَ كثيرةً من المشاهد الشعرية الدرامية التي يخلقها المتنبي بطريقته المذهلة بانتقاء الألفاظ وحسن الصياغة والصنعة مثل قولِهِ:
نَبْكي على الدّنْيا وَمَا مِنْ مَعْشَرٍ جَمَعَتْهُمُ الدّنْيا فَلَمْ يَتَفَرّقُوا
فَالمَوْتُ آتٍ وَالنُّفُوسُ نَفائِسٌ وَالمُسْتَعِزُّ بِمَا لَدَيْهِ الأحْمَقُ
وَالمــرء يَأْمُلُ والحيَاةُ شهيةٌ وَالشَيب أَوْقَرُ والشبيبةُ أَنْزَقُ
فيأبى المتنبي إلَّا أن يثبت لكلِّ الدارسين والنقاد والشعراء علوَّ كعبهِ في تاريخ الشعر العربي القديم والحديث، فكانَ ولمّا يزل شاعرًا تعجزُ الشعراء عن مجاراتِهِ صياغة وصورًا وأسلوبًا وغزارة.