من لليتامى؟
دنا الأجل.. وحانت ساعة الاحتضار.. تذكر حال صبيته الصغار، والذرية الضعفاء الذين سوف يتركهم وراءه، ترى من سيرعاهم؟ ترى من سيؤويهم ويحنو عليهم؟ ذرفت عيناه، يتمنى لهم ولياً مرشداً يربيهم كتربيته، يعوِّضهم بره وحنانه.
إنَّها صورة تتكرر كثيراً، صورة الأيتام هنا وهناك.. يتيم أفغانستان.. يتيم فلسطين.. والشيشان.. إنَّها صورة اليتيم المسلم في كل مكان.
هل تعرف اليتيم؟
نعم، هل تعرف ذاك الإنسان الضعيف الذي فقد ظهيره ونصيره (بعد الله تعالى)، فقد أباه الذي يرعاه بالعطف والحنان، يرعاه بحب خالص من شوائب الأنانية والمصلحة الخاصة، مع استعداد للتضحية والعطاء والفداء، وحرص شديد على إبلاغه مبلغ الرشد والكمال والنضج والقوة.
غير اليتيم يرعاه أبواه، يعيش في كنفهما تظلله روح الجماعة، يفيض عليه والده من حنانهما، ويمنحانه من عطفهما.
أمَّا اليتيم فقد فَقَدَ هذا الراعي، ومال إلى الانزواء والعزلة، ينشد عطف الأبوة، ويرنو إلى من يمسح رأسه ويخفف بؤسه.
إنَّه بوضوح واختصار: يتطلع إلى من يُنسه مرارة اليتم وآلام الحرمان.
وعندما نمضي سويا نستعرض النصوص القرآنية التي تعرَّضت لأحوال اليتامى، نلاحظ ما يلي:
* جعل الإحسان إلى اليتامى من البر:
قال تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ...} (البقرة/117).
* الأمر بالإحسان إلى اليتامى وإصلاح أحوالهم:
قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ...} (النساء/36).
* أن الإسلام جعل لليتيم حقاً في أموال الغنائم والفيء:
قال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ...} (الأنفال/41). وقال: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ...} (الحشر/7).
* إكرام الله عزّ وجل لليتامى ونعيه على من لم يكرمهم:
قال تعالى: {كلا بَل لاّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} (الفجر/17).
وقال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى/ 6ـ11).
إن حَسْبَ اليتامى أن يكون أسوتهم محمد صلى الله عليه وسلم، فتلك ـ وربك ـ هي الإنسانية بجلالتها، وهي الحقوق بأسمى معانيها.
وحسب الأوصياء أن يعلموا أنَّ اليتيم محمد صلى الله عليه وسلم قد رعاه ربه وتولاه، فآواه وهداه.
* ترتيب الجزاء العظيم لمن أكرم اليتيم:
قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا *عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} (الإنسان/5 ـ 12).
وقال تعالى:{فلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (سورة البلد/11 ـ 16).
ثم هاك بعض نصوص السنة تتم عقد ما ذكرنا من آيات:
* عن سهل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً (رواه البخاري). قال ابن بطال: "حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ومنزلة في الآخرة أفضل من ذلك".
قد يرغب محب الخير أن يعرف السر في بلوغ الكافل هذه المنزلة العظيمة، والرتبة الشريفة ليكون قريناً لنبيه صلى الله عليه وسلم في المقام العظيم.
قال أهل العلم:
إنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم كتب الله على يديه هداية قوم كانوا في ضلال مبين، قام عليهم، وأصلح شأنهم، علَّمهم وأرشدهم، ودلَّهم على الحق والطريق المستقيم.
وكذلك كافل اليتيم، يحفظ يتيمه في حال صغره حين لا يعقل ولا يفقه، فيدله ويهديه، ويهذبه ويربيه، فإذا بلغ مبلغ الرجال، كان رجلاً سوياً، محفوظ الحقوق، موفور الكرامة، مع ما يتحمَّل الكافل من تبعات الوصاية والرعاية، وشؤون التربية وحسن العناية، وما يحف بذلك من تقوى ونزاهة وعفاف. قال النيسابوري: قال أهل التحقيق: الحكمة في يتم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف قدر الأيتام فيقوم بأمرهم، وأن يكرم اليتيم المشارك له في الاسم.
* عن أبي أمامة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة مرَّت عليها يده حسنات، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين" وفرَّق بين إصبعيه السبابة والوسطى (رواه أحمد).
نعم، امسح رأسه، اقترب منه، ابتسم له، طيِّب خاطره، أدخل البهجة على روحه الظامئة بكلمة باسمة.
إنَّ العلاقات الإنسانية تحقق كل مجد لها حين تضفي على هذا اليتيم المحروم من حنانها ودفئها.
* عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إني أحرج حق الضعيفين، اليتيم والمرأة" (رواه أحمد وابن ماجه).
فهذا تحذير بليغ وزجر شديد بإلحاق الإثم بمن ضيَّع حق اليتيم والمرأة.. لِمَ؟؟ لأنَّهما ضعيفان.. إذاً هما بأمس الحاجة إلى من يقف معهما مدافعاً ومناصراً.
* قول النبي صلى الله عليه وسلم للسائب بن عبدالله: "يا سائب، انظر أخلاقك التي كنت تصنعها في الجاهلية فاجعلها في الإسلام. أقْر الضعيف، وأكرم اليتيم، وأحسن إلى جارك" (رواه أبو داود وصححه الألباني).
* وقد عدَّ عمرو بن العاص رضي الله عنه خمس صفات يمتاز بها الروم، وذكر منها "وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف" (رواه مسلم).
ونختم هذا ببعض الأمثلة التطبيقية من النبي صلى الله عليه وسلم:
فمن ذلك ما فعل بأولاد أبي سلمة عبدالله بن عبد الأسد بن هلال المخزومي - رضي الله عنه - الذي مات سنة 4هـ عن أولاد صغار، وعن زوجته الكريمة أم سلمة- هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية - فيتم الأطفال، وتأيمت المرأة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بكفالتهم جميعاً كما يكفل أبناءه.
و لما علم بانقضاء عدة أم سلمة - رضي الله عنها - أرسل إليها يخطبها ليكفلها وأولادها، وقال لها لما أرادت أن تعتذر إليه بغيرتها وكثرة صبيانها: "أما قولك: غيرى، فسأدعو الله فتذهب غيرتك، وأما قولك: فإني امرأة مصبية فستكفين صبيانك" (رواه النسائي) فرضيت وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وعال أيتامها.
ولما أفاء الله تعالى عليه كان يلي أمر كل مسلم يموت وله عيال، ويقول: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينًا أو كلاً أو ضياعًا فعلي وإلي، ومن ترك مالاً فلورثته" (رواه البخاري ومسلم).
فهكذا كان النبي صلي الله عليه وسلم يعني بالأيتام بنفسه الشريفة، ليكون أسوة للأمة في العناية بهم وجبر كسرهم وسد عوزهم، فإنها مأمورة بالتأسي به صلي الله عليه وسلم، وفعله شرع لها، وهي مسؤولة عنه إن هي فرطت في أتباعه فيه، لا سيما من يلي أمر الأمة من خلفائه بعده، فإن عليهم أن يفعلوا ما كان النبي صلي الله عليه وسلم يفعله من الكفالة والإعالة للأيتام؛ لأنهم نوابه في رعاياهم من بعده، وذلك من مقتضيات ولاياتهم وواجبات خلافتهم، التي ائتمنهم الله تعالي عليها.
* ولنا في الصحابة أسوة فقد كان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ لا يجلس على طعام إلا على مائدته أيتام.
وبعد فنخلص مما سبق إلى:
* أنَّ كافل اليتيم يحوز صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ويحظى بذلك شرفاً وفخراً.
* كفالة اليتيم صدقة يضاعف لها الأجر إن كانت على الأقرباء (أجر الصدقة وأجر القرابة) كما حدث في حديث زينب امرأة عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ عند البخاري.
* كفالة اليتيم والإنفاق عليه دليل طبع سليم وفطرة نقية.
* كفالة اليتيم والمسح على رأسه وتطييب خاطره يرقق القلب ويزيل عنه القسوة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلاً شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال: "امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين" (رواه أحمد).
* إن كفالة اليتيم تعود على الكافل بالخير العميم في الدنيا فضلاً عن الآخرة.
* كفالة اليتيم تساهم في بناء مجتمع سليم خال من الحقد والكراهية، وتسوده روح المحبة والود. إن اليتيم إذا لم يجد من يستعيض به حنان الأب المشفق والراعي الرفيق، فإنه سيخرج نافر الطباع، وسيعيش شارد الفكر، لا يحس برابطة ولا يفيض بمودة. وقد ينظر نظر الخائف الحذر، بل قد ينظر نظر الحاقد المتربص، وقد يتحول في نظراته القاتمة إلى قوة هدامة))) شكر اااااااااالك على الموضوع تحياتي