شرح المقامة البغدادية

Zohoor Alreef

عضو جديد
23 نوفمبر 2018
182
1
0
33
شرح المقامة البغدادية

2665-cached.jpg


بديع الزمان الهمذاني
هو أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد المشهور ببديع الزمان الهمذاني، كاتب وأديب معروف ينتمي إلى أسرةٍ عربية ذات مكانة علمية رفيعة استوطنت همذان وولد بها بديع الزمان عام 969م فنُسب إليها، وكان يفتخرُ بأصلِه العربي دائمًا، وقد جمَع بين الثقافتين العربية والفارسية وتعمَّق في كلا الثقافتين فكان لغويًّا وأديبًا وشاعرًا وراويةَ حديثٍ، تنقَّل بين أصفهان وجرجان ونيسابور ثمَّ حطَّ رحاله في مدينة هرات واستقرَّ بها إلى أن عاجلته المنية عام 1007م وهو دون الأربعين من عمره، وهذا المقال سيتحدَّث عن مقامات بديع الزمان الهمذاني وسيتناول المقامة البغدادية بالشرح الوافي.

مقامات بديع الزمان الهمذاني
لم يترك بديع الزمان الهمذاني سوى القليل من الميراث الأدبي لكنَّ ما تركه كان عظيم الأثر، فقد ترك المقامات والرسائل وديوان الشعر، وسيدور الحديث هنا عن تلك المقامات التي تركها، فالمقامات تمثِّلُ في الأدب العربي جنسًا أدبيًّا مستقلًّا، ابتدعهُ بديع الزمان الهمذاني ونُسب هذا الفنُّ إليه، فوضعَ أسسَه وقواعدَه وفتح بابًا واسعًا دخله بعدَه الكثير من الأدباء مثل أبي محمد القاسم الحريري وناصيف اليازجي، والمقامات عبارة عن مجموعة من الحكايات القصيرة التي تُبنى على السجع ويغلبُ عليها الصنعة والتأنق والجناس ممَّا يوحي بالمقدرة اللغوية الهائلة والعميقة، ويتبعُ ذلك التفنُّن في الأساليب الإنشائية. وقد جعلَ الهمذاني لمقاماته راويًا متخيَّلًا وهو عيسى بن هشام وجعل لها بطلًا وهو أبو الفتح السكندري، الذي عُرف بخداعه ومغامراته وحذاقته في التخلُّص من مآزقه، والبطل عنده شخصية فكاهية، وقد أراد بديع الزمان بهذه المقامات أن يؤكد على تمكُّنه في اللغة ومكانته في البلاغة واقتداره على فنِّ القول وعالج فيها الكثير من قضايا زمانه.
ومن أشهر هذه الموضوعات التي تطرَّقت إليها المقامات موضوع الكُدية “الاستجداء والحصول على الرزق بالمكر والخداع” وأشهر مقامة في ذلك المقامة البغدادية ، وموضوع الوعظ والإرشاد كما في المقامة الواعظية والأهوازية، وموضوع المدح في المقامات الستّ التي مدح فيها خلف بن أحمد وهي: الخلفية، الناجية، الملوكية، النيسابورية، التميمية، السارية. وبعضها بتناول موضوع الخلاف في المذاهب كالمقامة المارستانية، وبعضها يتكلم عن الشعراء ونقدِ الشعر كالقريضية والشعرية والعراقية والإبليسية والجاحظية. وبعضها يتضمَّن حوادث في زمانه وأخلاق معاصريه وأحوالهم كالمقامة الأسدية والخمرية والرُّصافيَّة وغيرها.

شرح المقامة البغدادية
المقامة البغدادية من أشهر مقامات بديع الزمان الهمذاني التي تناول فيها موضوع الكدية، وهو الحصول على الرزق من خلال الحيل والخداع، وقد دارت أحداث المقامة البغدادية في بغداد، وهي عبارة عن قصَّة احتيال قام بها بطل المقامة عيسى بن هشام على رجل عراقيٍّ للحصول على غدائه واعتمد فيها بديع الزمان الهمذاني على البلاغة وحسن النسج والسجع كغيرها من المقامات، حيثُ يقولُ فيها :
حدَّثَنَا عيَسى بنُ هشامٍ قالَ: اشتهَيْتُ الأزَاذَ، وأنَا ببَغدَاذَ، وليِسَ معْي عقدٌ على نقدٍ، فخَرجْتُ أنتَهِزُ محالَّهُ حتَّى أحلَّنِي الكَرخَ، فإذَا أنَا بسَواديٍّ يسُوقُ بالجهْدِ حمِارَهُ، ويَطَرِّفُ بالعَقدِ إزَارَهُ، فقلْتُ: ظفِرْنَا واللهِ بصَيدٍ، وحيَّاكَ اللهُ أبَا زَيدٍ، منْ أينَ أقبَلْتَ؟ وأيْنَ نزَلتَ؟ ومتَى وافَيتَ؟ وهلُمَّ إلَى البيتِ، فقَالَ السَّواديُّ: لستُ بأبِي زَيدٍ، ولَكنِّي أَبو عبَيدٍ، فقُلتُ: نعَمْ، لعَنَ اللهُ الشَّيطانَ، وأَبعَدَ النِّسيانَ، أنسَانِيكَ طولُ العهدِ، واتصَالُ البُعدِ، فكَيفَ حالُ أبِيكَ ؟ أشَابٌ كعَهدي، أمْ شابَ بَعدِي؟ فقَالَ: قدْ نبَتَ الرَّبيعُ علَى دمنَتِهِ، وأَرجُو أنْ يصيِّرَهُ اللهُ إلَى جنَّتِهِ، فقُلتُ: إنَّا لله وإنَّا إلَيْه راجعُونَ، ولاَ حوْلَ ولاَ قوةَ إلاَّ باللهِ العلِيِّ العظِيم، ومدَدْتُ يدَ البدَارِ، إِلي الصدَارِ، أرِيدُ تمْزِيقَهُ، فَقبضَ السوادِيُّ على خصْرِي بجمُعْهِ، وقَالَ: نشَدتُكَ اللهَ لا مزَّقتَهُ، فقُلتُ: هلُمَّ إِلى البيتِ نصِبْ غدَاءً، أَو إلَى السُّوقِ نَشترِ شواءً، والسُّوقُ أَقربُ، وطَعامُهُ أَطيبُ، فاستَفَزَّتْهُ حمَةُ القرَمِ، وعطَفَتْهُ عاطِفُةُ اللَّقَمِ، وطَمِعَ، ولَمْ يعلَمْ أنَّهُ وقَعَ، ثمَّ أتيْنَا شوَّاءً يتقَاطَرُ شوَاؤُهُ عرقاً، وتتَسَايَلُ جوذاباتُهُ مرقاً، فقلْتُ: افرِزْ لأبِي زَيدٍ منْ هذا الشِواءِ، ثمَّ زنْ لهُ منْ تلْكَ الحلواءِ، واخترْ لهُ منْ تلكَ الأطباقِ، وانضِدْ عليْهَا أورَاقَ الرُّقاقِ، وَرشَّ عَليهِ شَيئَاً منْ ماءِ السُّمَاقِ، ليأكُلَهُ أبُو زَيدٍ هنيًّا، فأنْخّى الشَّواءُ بِساطُورِهِ، علَى زُبدَةِ تنُّورِهِ، فَجعَلها كالكحْلِ سَحقاً، وكالطِّحْنِ دقْا، ثمَّ جلسَ وجلَسْتُ، ولا يئِسَ ولا يئِستُ، حتَّى استَوفَيْنَا، وَقلتُ لِصاحِبِ الحلوَى: زنْ لأبي زيْدٍ منَ اللُّوزينج رطلَيْنِ فَهوَ أَجرَى فِي الحُلوقِ، وَأمضَى فِي العرُوقِ، وليَكُنْ ليلي العُمرِ، يومِيَّ النَّشرِ، رقِيقَ القِشرِ، كثِيفِ الحشو، لؤْلؤِيَّ الدُّهنِ، كوكَبيَّ اللَّونِ، يذُوبُ كالصَّمْغِ، قَبلَ المضْغِ، ليَأْكُلهُ أَبو زيدٍ هنِيًّا، قالَ: فوَزنَهُ ثمَّ قعَدَ وقَعدْتُ، وَجرَّدَ وَجرَّدْتُ، حتىَّ استَوْفَيْنَاهُ، ثمَّ قُلتُ: يا أبَا زَيْدٍ ما أَحوجَنَا إلَى ماءٍ يشعْشِعُ بالثَّلجِ، لِيقمَعَ هذِهِ الصَّارَّة، وَيفثأَ هذهِ اللُّقمَ الحارَّةَ، اجلِسْ يا أبَا َزيدٍ حتَّى نأتِيكَ بِسقَّاءٍ، يَأتِيكَ بِشَربةِ ماءٍ، ثمَّ خَرجتُ وَجَلستُ بِحيثُ أَراهُ ولا يرانِي أَنظرُ ما يَصنعُ، فَلمَّا أَبطأتُ عَليهِ قَام السَّواديُّ إِلى حمَارِهِ، فَاعتلَقَ الشَّوَّاء بِإِزارِهِ، وَقالَ: أَينَ ثَمنُ ما أَكَلتَ؟ فَقالَ: أَبو زَيدٍ: أَكَلتهُ ضَيفًا، فَلكمهُ لَكمةً، وَثنَّى عَليهِ بِلطمَةٍ، ثمَّ قالَ الشَّوَّاءُ: هاكَ، ومتَى دَعونَاكَ؟ زنْ يَا أَخا القحَةِ عِشرِينَ، فَجعلَ السَّوَاديُّ يَبكِي وَيَحلُّ عُقدهُ بِأَسنانِهِ وَيقولُ: كمْ قُلتُ لِذاكَ القرَيْدِ، أَنا أَبو عُبيْدٍ، وهوَ يَقولُ: أَنت أَبو زَيدٍ، فَأنشَدْتُ:
أعْمِلْ لرِزْقِكَ كلَّ آلـهْ
لاَ تقعُدَنَّ بكُلِّ حـالَـهْ
وانْهَضْ بكُلِّ عظِيَمةٍ
فالمَرءُ يعجِزُ لا محَالَهْ
يتحدَّث بديع الزمان الهمذانيُّ في المقامة البغدادية على لسانِ راويه عيسى بن هشام، حيثُ يقولُ: لقد اشْتهيتُ الطَّعام وأنا في بغداد، وليسَ معي أي نقود، فخرجتُ أبحثُ في منطقة الكرخ وهي منطقة غرب بغداد بين محلَّات أقتنصُ فرصةً للحصول على الطعام، حتَّى وجدت رجلًا من السواد وهي منطقة جنوب العراق، فرأيته يجرُّ حمارَه ويردُّ طرفَي ثوبه على بعضِهما وربَّما من كثرةِ صُررِ المال الذي معه، فقلتُ: ظفرتُ بصيدٍ ثمن، فأوهمته أني أعرفه، فقلت له: حيَّاك الله أبا زيد، وصرتُ أسأله عن حاله، فقال: لستُ أبا زيد، أنا أبو عُبيد، فقلتُ: أنساني إيَّاك الشيطان، وسألتُه عن حال والده لأوهمه أنِّي أعرفه أيضًا، فقالَ: ماتَ منذ زمنٍ وقد نبت العُشب على قبره، فأسرعتُ أريد أن أشقَّ ثوبي فردَعني السوادي ومنعني من ذلك، وناشدني الله أن لا أمزقَه، ثمَّ قلت له: تفضَّل معي إلى البيت أو إلى السوق والسوقُ طعامه أطيب وهو أقربُ من البيت، وقد استفزَّته رائحة الشواء وزادت شهوتُه لأكل اللحم. فطمعَ بغداء ولم يعلم أنَّه وقع في المصيدة التي نصبتُها له، فذهبنا إلى محلِّ شواء يتقاطر فيه الدسم من اللحم المشوي ويسيل على جوانبه وعلى الخبز المخبوز في التنور، فقلت للشوَّاء أن يعدَّ لأبي زيد الطعام والحلوى والخبز ليأكل هنيًا، وبدأ الشواء بعمله واختار لنا أفضلَ ما عنده من اللحم المشوي وأعدَّه أحسنَ إعداد وأكلناه أنا وأبو زيد دونَ تباطؤ، ثمَّ أمرتُ بأن تُعدَّ له الحلوى المحشوَّة بالجوز واللوز لأنَّها أسهل سيرًا في الحلوق وليكن من صنعِ الليل لتقديمه في هذا النهار.
ووصف هذه الحلوى الطيِّبة، ثمَّ جلسنا وشمَّر كلٌّ منَّا عن ساعديه حتَّى استوفيناه أي أنهينا الحلوى، ثمَّ قلتُ لأبي زيد: ما أحوجنا إلى الماء البارد الآن ليدفع عنا هذا العطش وحرَّ الطعام الذي أكلناه، وخرجتُ أوهمُه أني سآتي بالماء ولم أعُد، بل جلستُ أراقبه من مكانٍ أراه فيه ولا يراني، فلمَّا تأخرت عليه خرجَ إلى حماره، فلحقه الشواء، وقال له: أين ثمن ما أكلت، فقال السوادي: كنت ضيفًا على هذا الطعام، فلكمُه الشواء ولطمه وقال له: متى دعونَاك! أعطني عشرين درهمًا من كيسِك هذا، فبدأ السوادي يبكي ويحلُّ عقدةَ كيس نقوده بأسنانه ويقول: كم قلت لذلك القُريد “تصغير القرد”: إنِّي أبو عُبيد، ويقول: أنت أبو زيد، ثمَّ أنشدَ عيسى بن هشام بيتين من الشعر، ومعنى البيتين: أعمِل أيها الإنسان من أجل رزقِك كلَّ وسيلة ممكنةٍ ولا تقعد أبدًا وانهض قبل أن تعجز تمامًا عن السعي وراء رزقك.